"المدونة محمية بميثاق الشرف. أرجو الإشارة الى اسم (غار عشتار) والكاتبة (عشتار العراقية) عند إعادة النشر"

16‏/5‏/2015

جلجامش مُعلِّم البشر

غارعشتار
 بقلم: محمد عارف*
«وهَبتَهُ الجمال، والقوة والشجاعة، لكن لماذا أثقلت عليه بقلب قلق لا يستريح»، تسألُ الخالقَ «نيسون» أم «جلجامش»، بطل أقدم ملحمة في التاريخ. و«جلجامش» ليس كأبطال الملاحم الأوربية المنيعين المحصنين ضد الخوف، «إنه لا يشعر بالخوف فحسب، بل يقول إنه يشعر بالخوف». يتأمل ذلك مترجم الملحمة الشاعر الإنجليزي ستيفن ميتشل، الذي قدّم أحسن وأحدث ترجمة لها، وبيّنَ في مقدمتها أن نظرية «محور الشر»، التي تتحكم بالفكر السياسي الغربي متخلفة إنسانياً أربعة آلاف عام عن «جلجامش»، الذي يقول لصديقه «أنكيدو»: «نحن لسنا آلهة، نحن لا نستطيع الصعود إلى السماء. لا، نحن رجال فانون. الآلهة وحدها تعيش إلى الأبد. وأيامنا محدودة، ومهما حققنا فهو نفخ ريح».

و«هنا نشأت الحضارة الغربية، في هذا المكان بين نهري دجلة والفرات، حيث وضع حمورابي مدونته القانونية، وحيث أُلِفَت «جلجامش» قبل ألف عام من «الإلياذة» و«العهد القديم». كتب ذلك ميتشل الذي استخلص الملحمة «في نص جديد رائع سريع الحركة كأفلام الإثارة الحديثة»، حسب أسبوعية «الناشرين»، التي ذكرت أن «الملحمة حققت الخلود الأدبي، ليس لأنها تحفة قديمة نادرة، بل لأن قراءتها تجعل الناس الموجودين الآن يشعرون أنهم أكثر حياة تماماً».
ويعتبر ميتشل الملحمة في مصاف عيون الأدب العالمي الخالدة، «فهي تملك ما تحدثنا به عن أنفسنا، وهي في تعبيرها عن الحزن وخوف الموت أكثر قوة من كل ما كتب بعدها، وأصبحت بتصويرها للحب والهشاشة، والسعي لأجل الحكمة، شهادة شخصية لملايين القراء في عشرات اللغات، ولها صلة خاصة بعالم اليوم، باستقطاباته المتشددة، حيث كل جانب يؤمن بحماسٍ بصحة دعواه، وكلٌ يخوض حرباً صليبية أو جهاداً ضد ما يعتبره العدو الشرير».
كتب ملحمة «جلجامش» شاعر مجهول عاش في بلاد ما بين النهرين، وضاع أثرها آلاف الأعوام، وعندما عُثر نهاية القرن التاسع عشر على ألواح طينية تحمل بعض مقاطعها ذُهل العالَمُ. الشاعر الألماني ريلكه، أول الأدباء العالميين الذين قرأوا نصوصاً مترجمة منها، اعتبرها «أعظم حدث يمكن أن يقع لإنسان»، وقال إنه اكتشف فيها «مقاطع عملاقة حقاً تحمل معايير وأشكال تعود إلى الأعمال المتوهجة التي لم يُنتج قط مثلها».
وتأثير ملحمة «جلجامش» على الأدب والفن والفكر في الغرب منذ القرن التاسع عشر وحتى الوقت الراهن ملحمة بحد ذاته. يستقصي ذلك كتاب «جلجامش بيننا»، حيث يستعرض مؤلفه «زيولكوفسكي» ما يسميها «المواجهات الحديثة مع ملحمة قديمة»، التي تمتد من عالِم النفس يونغ، والشاعر ريلكه، وحتى المسلسل التلفزيوني عن الفضاء «ستار ترِكْ».. ويذكر أن سحر «جلجامش» يكمن في ما يعبر عنه من قيم روحية خالدة، كالحب والصداقة، والشجاعة، وخشية الموت، التي جعلت الملحمة «مصدر إلهام لعشرات الكتاب والموسيقيين والفنانين، وتواصلُ عواطفها المتفائلة التأثير حتى على حركات حقوق المرأة، والبيئة. وهي في آن مقياس هزّات تحولات تاريخ وثقافة الغرب وشهادة على الحقائق والقيم الملحمية الغابرة».
ويبدأ هذا الشهر وحتى أكتوبر عام 2016 برنامج «جلجامش» للفتيان في بريطانيا، الذي فاز بمنحة جائزة «اليانصيب العام». تنظم البرنامج جمعية إنجليزية تحمل اسم أول شاعرة في التاريخ «إنهدوانا»، وهي ابنة الملك سرجون الأكدي، وتتنقل القراءات والعروض الفنية للملحمة ما بين «مقهى الشعر» في لندن، و«المتحف البريطاني» الذي يحفظ 25 ألف لوح طيني أثري من العراق. وليست هذه مناسبة لنعي النفس، وغرس مشاعر الدونية، وهي الوجه الآخر لـ«داعش»، بل لنتذكر، إذا كنا نعترف بفضل الغرب حقاً؛ إذ في الغرب الذي نعرفه من هم أفضل من الغرب الذي نعرفه؛ وقد نزلوا بالملايين إلى شوارع عواصمهم ضد غزو العراق، وتدمير البلدان العربية، فيما ضاع كثير منا ضياع ملحمة «جلجامش» وتوّزعت نُفوسنا كتوزُع ألواحها المتناثرة عبر العالم. «جلجامش» معلم البشر سيُعلّمنا الحكمة، والشجاعة، والصداقة، والحب.

* مستشار في العلوم والتكنولوجيا
المصدر

هناك تعليق واحد:

  1. ليس للغرب أي فضل علينا أبدا و نهائيا من صالحهم و طالحهم مع الشكر.

    ردحذف