"المدونة محمية بميثاق الشرف. أرجو الإشارة الى اسم (غار عشتار) والكاتبة (عشتار العراقية) عند إعادة النشر"

17‏/4‏/2011

احتلال العقل العراقي: الجامعة الأمريكية في السليمانية -10

الحلقة السابقة هنا

كيف قضيت سنة في العراق للتدريس مع مهاويس بوش- تشيني
بقلم جون دولان *

جون دولان درّس في جامعة بيركلي بالولايات المتحدة وفي نيوزيلاند وروسيا وكندا والعراق، وكتب سبعةكتب والكثير من المقالات الأكاديمية والصحفية . وهو مؤلف أحدث كتبه (الجحيم اللطيف Pleasant Hell) - صدر عن دار كابريكورن 2005

ترجمة عشتار العراقية

تاريخ المقالة : 8 تشرين اول 2010

بطل هذه القصة هو ورقة المائة دولار.، الكثير منها. كان أول لقاء لي مع هذه الاوراق الجميلة في نهاية مقابلتي من اجل وظيفة تعليم اللغة الانجليزية في الجامعة الأمريكية في السليمانية . في نهاية المقابلة سألني رئيس الجامعة جوشوا متشيل كم كانت مصاريف السفر. واخرج كدسا من الحزم الخضراء فئة 100 دولار عدّ منها 11 ورقة ، سعر بطاقة السفر ورماها على المنضدة وهو يقول "اليك ، هذه هي طريقتي في العمل"

وبالتأكيد لم تكن الطريقة التي يتبعها الاكاديميون الأمريكان. معظم الأمريكيين قد يشعرون بالرعب من منظر رزم كثيرة من النقد، والاكاديميون الامريكان لايرمون النقود على منضدة بدون ان يطلبوا منك وصل
بالاستلام او اي نوع من التوثيق الرسمي. شعرت بالانبهار. هناك دائما شيء يجذبك في التعامل السوقي الجريء في حين كنت تتوقع الحذر الزائد عن اللزوم.

أي نزعات معارضة قد تكون لدي في العمل بمعية الاحتلال تلاشت مع تلاشي آخر نقودنا. كنت وزوجتي كاثرين فقراء حقا في السنوات الثلاث الأخيرة من حياتنا، بلا مسكن ، نتسول في بنوك الطعام ، مع كل ملامح ما يأتي به الفقر. حتى اني نشرت بعض الارشادات لمن يذوق الفقر لأول مرة .

ذهبنا الى العراق من اجل المال وليس لأننا كنا نؤمن بحديث المحافظين الجدد حول تدريب قادة المستقبل على القيم الغربية العظيمة.

وحالما تعارفنا مع زملائنا في الجامعة حتى وجدنا ان كل الهيئة التدريسية تقريبا قد جاءت لنفس الغرض. طبعا هم يحفظون نقاط الحديث : الديمقراطية ، الكتب العظيمة ، التحول من ثقافة شمولية ، ولكنهم كانوا في العراق من اجل المال. حسنا ، من اجل المال والسُكر. فحين تنتشي الهيئة التدريسية بالخمور، كما يحدث في كل اجتماع، يختفي هراء جلب الديمقراطية ويبدأ الناس في الحديث الصريح عن السيارات رباعية الدفع والمنازل التي يحلمون بشرائها.

تفتحت زهرة الجامعة الامريكية في صحراء شمال العراق وهو نمو اصطناعي دعمه دولار دافع الضرائب الامريكي. في احدى الليالي حين بلغت حفلة الهيئة التدريسية قمة السكر، اخبرنا بعض قدامى المدرسين في الجامعة القصة السرية حول انشاء هذا المكان. قالوا أن القصة بدأت حين عبر جون أغريستو الحدود التركية ومبلغ 500 الف دولار نقدا مربوط على وسطه. كان هناك شيء مبالغ به في هذه الحكاية لأن أغريستو شخص بدين بشكل ملحوظ، وحين تسمع قصة ربط حزمة كبيرة من النقود حول بطنه ، لايمكن الا ان تتخيله منفوخا بالنقود فوق انتفاخاته الاخرى.

ومع غرابة القصة ولكنها على الأكثر صحيحة فقد حدثت اشياء اغرب بأموال ضخمة طوال سنوات احتلال العراق ، واغريستو بالتأكيد كانت لديه الصلات السياسية للحصول على هذا النوع من المال. في المراحل الأولى للاحتلال بعد 2003 ، كان اغريستو مسؤولا عن (اصلاح) نظام التعليم العراقي حسب مباديء الجمهوريين. ويحسب له انه كتب كتابا صادقا الى حد ما، حول تجربته بعنوان (مصدوم بالحقيقة)
Mugged by Reality) ولكن ذلك للأسف ، لم يحبطه فقد عاد اغريستو الى جذوره اليمينية متجنبا ذلك الشرير المشين (الواقع) بقدر الامكان.

مسيرة أغريستو هي حكاية نموذجية للجناح اليميني، فقد رافقه الفشل في جزء كبير من مسيرته . كان مرشحا في عهد ريغان لينضم للمنحة القومية للانسانيات في منتصف الثمانينيات وقد انضم الى راعيه بيل بنيت في مشروع حرمان اليسار من التمويل. ولكن حين رشح الى نائب رئيس المنحة وهي وظيفة تتطلب موافقة الكونغرس ، تعرض اغريستو للاذلال . فقد وصف بأنه (ترشيح سياسي متواضع) من قبل رابطة الدراسات الامريكية ومنظات اكاديمية اخرى كثيرة وقد اصدروا بيانا مستنكرين فيه ترشيحه الحزبي ، كما اثارت الدهشة حقيقة ان الشاهد الذي شهد لصالحه في جلسة الكونغرس كان قد ارتشي بمنحة من اجل تلك الشهادة. بعد هذه الفضائح ، اسقط ترشيحه.

أخذ أغريستو تلك الأموال الى السليمانية في شمال العراق واقام الجامعة، ووضع نفسه مسؤولا عليها. ومن الواضح انه اختار الشمال لسبب بسيط وهو ان بغداد وهي المكان الطبيعي لاقامة جامعة امريكية في العراق ، كانت شديدة الخطورة على الأمريكان.

وصلت مع دستة من المدرسين الجدد في ايلول 2009. جئنا على نفس الطائرة واخذنا الى الفنادق في نفس الحافلة . كان معظمنا خائفا ، يجفل عند اي صوت عال. ولكننا تعلمنا سريعا بأنه لا خوف من وجود ارهابيين او حتى باعة متجولين . بل الخطر الوحيد هو عبور الشوارع فكل شخص ذي نفوذ ، يملك سيارة دفاعية الربع ، الكيا الرياضية للطبقات المتوسطة والتويوتا لاندكروزر للاغنياء وقليل جدا من الناس هناك يعرفون قيادة السيارات. ولكن لم يكن هناك عنف ضد الاجانب حسب علمي. وتعلمنا ان نعود الى النوم بعد سماع دفقات من طلقات الكلاشينكوفات فهي الطريقة للاحتفال بزواج او انتخابات او لمجرد انها ليلة الجمعة.

أريد أن اعبر عن اعجابي بالناس في السليمانية وطلبتي على الأخص. كانوا تغييرا رائعا من طلبتي الأمريكان الأغرار الذين التقيتهم في تجاربي الاولى في التدريس . معظم طلبة السليمانية كان لديهم قريب قد عذب او فقد على ايدي صدام او الحرب الاهلية الكردية في التسعينيات وتقريبا معظمهم كان يدرس بلغة غريبة عليه لم يتعلمها جيدا ولكنهم كانوا اذكياء ومرحين ولايشعرون بالشفقة على انفسهم.

كان زملائي الامريكان هم المشكلة . ولم اكن وحدي بهذا الرأي. مرة سألت زميلة في الجامعة اذا كانت تعاني من قلة احترام الطلاب الاكراد الذكور . نظرت الي وكأنني مجنون قائلة "بالتأكيد لا، هل تمزح؟ المشكلة هنا ليست الطلاب ولكن الأراذل (استخدمت كلمة assholes التي لا اعرف كيف اترجمها) في المبنى الرئيسي"

كان المبنى الرئيسي يهيمن على حرم الجامعة . في الواقع كان الحرم مقسوما الى قسمين مثل مزرعة في ايام العبيد. هناك المبنى الرئيسي والكابينات . كانت الكابينات اكواخ سابقة التجهيز رخيصة مصنوعة من المعدن الابيض الذي يلتمع في الشمس الساطعة ، موضوعة في صفوف مثل ثكنة عسكرية داخل مربع من الجدران المضادة للانفجار. كل التعليم الفعلي وكل مكاتب المدرسين كانت في الكابينات. المبنى الرئيسي وهو صرح ضخم من الحجر على الطراز السوفيتي ، مخصص لمكاتب الاداريين الفخمة .

كان هذا حرم الجامعة الحقيقي وليس الموجود على موقع الجامعة على الانترنيت. كانت تلك هي اول صدمة لدى وصولنا : اكتشاف أن حرم الجامعة الهائل والفخم على موقع الانترنيت ، المكان الذي يمكنك ان تقوم بجولة افتراضية عبر ممرات مبلطة تصل بين المباني الفخمة المسماة (المبنى الرئاسي) و (مساكن الطلبة) لا وجود لها في الواقع.

أوه .. هناك موقع بناء، على سفح تل جاف خارج المدينة وهو على حاله منذ سنوات. وكانت الجامعة الأمريكية ترينا على الموقع الانترنيتي فيديو افتراضي لما سيكون عليه المبنى بعد انتهاء العمل فيه ، وكأنه موجود فعلا. وقد لا يتهي العمل به حيث استأجرت الجامعة وطردت شركة بناء محلية ماطلت في كل مواعيدها . وتنفذ العمل الآن شركة تركية مما يضيف الى الهيمنة التركية على كل انواع العمل في (كردستان).

أحد الأسباب التي تجعلنا نقبل بصدمات مثل الحرم الجامعي المفقود هو انهم حين استقبلونا في مطار السليمانية اعطونا كيسا صغيرا يحوي هاتفا نقالا و5000 دولار لمساعدتنا في الاستقرار"

في اليوم التالي ، اخذونا الى الحرم الحقيقي وخصصوا لكل منا احدى الكابينات البيضاء. اكتشفنا سريعا ان هذه الكابينات هي حكاية بحد ذاتها. كانت مصنوعة بطريقة سيئة حتى انك في كل مرة تغلق الباب يخرج المقبض في يدك. وكان مقبض بابي قد فعلها في أسوأ لحظة ممكنة . فبعد يوم من تصحيح اوراق الطلبة مع الكثير من القهوة ، وفي اللحظة التي قررت مثانتي انها لاتحتمل المزيد، مشيت بسرعة الى الباب وصفقتها ، وحينها اصبح مقبض الباب مثل تذكار ، علاقة مفاتيح في يدي.

وهناك جاء سوء الصناعة في صالحي حيث ضربت على الجدار الفاصل بين وزملائي في الجزء الآخر من الكابينة وهكذا جاء احدهم لنجدتي وفتح لي الباب من الخارج، وقال انه فهم ماذا يعني الخبط لأنها حدثت معه في الاسبوع الماضي. ومع ان الحكاية كانت مدعاة للضحك والتلاحم مع الزملاء ، ولكنها ايضا تؤكد على الاحساس الغريب بالزيف، وكأنك تعيش وتدرس في ديكور مسرح.

كل المزاعم التي اعلنتها الجامعة كانت مسرحية ايضا ، وهو تبجح سخيف امتازت به امريكا في العراق. فالاهداف المزعومة للمهمة كانت الافتراض باننا نحول الثقافية العراقية ونعلم قادة المستقبل اساليب التفكير الديمقراطي . ولكن لم يسجل في الجامعة سوى 200 طالب وكانت الجامعة بدورها تكافح لتوفير الامكنة لهؤلاء ، ومن الصعب ان تصدق ان مجموعة بهذا الحجم يمكنها ان تحول بلدا فيه اكثر من 26 مليون نسمة

ومنذ اول درس ، اكتشفت ان هؤلاء القلة من الطلبة غير مهيئين للدراسة الجامعية باللغة الانجليزية . وكان قد قيل لنا - وهي كذبة طبعا - ان برنامج تأهيل الطلبة باللغة الانجليزية قد انتج طلابا يتحدثون ويكتبون الإنجليزية بطلاقة. كانت هذه نكتة، ولو كنت قد قست تلاميذي بنفس مستوى القياس في اي جامعة امريكية ، لرسب ثلثا الطلبة. ولو كان هناك رجل افضل مني في مكاني فلابد انه كان سيقوم بالشيء الذي يوافق ضميره. اما انا فقد كنت بحاجة الى رزم المائة دولار ، وهكذا وزعت بكرم درجات سي و بي (مقبول وجيد) .

كل شيء كان مزيفا. . كان المفروض بنا ان نردم الهوة بين التقسيمات الإثنية في العراق، ولكن في فصلي الدراسي الاول ، كان في الصف ما يمكن ان يسمى (جدار الكرد) و(جدار العرب) . كان الطلاب جميعهم من الذكور تقريبا وملمحهم العام وكأن هناك معركة عصابات في سبات مؤقت. في جانب من الغرفة كان جدار الكرد نصف دستة طلاب اكراد ريفيين خشني المظهر لايتكلمون الا القليل من الانجليزية ، وعلى الجانب الاخر نصف دستة من طلاب عرب من سكان بغداد، وعلى ملامحهم إجفال دائم (فزة) . كان العرب افضل في الانجليزية كتابة وقراءة ، من ارث معاملة صدام التفضيلية لبغداد.(بمعنى آخر ان الدراسة في عهد صدام كانت أفضل وتخرج طلابا احسن) وكان الكرد يشعرون بالحنق من كل جملة صحيحة يقولها العرب.

كانت هناك مشكلة اكبر في تحقيق هذه المهمة الرسالية: هيئة التديس. لم نكن مجموعة باهرة . كان هناك مدرسون جيدون في الجامعة ولن أسميهم لأن مديحي لهم قد يتسبب بطردهم ، ولكنهم استمروا في البقاء بمجرد عدم لفت الانتباه اليهم. ان تكون مدرسا ذكيا وجيدا يجعلك موضع شك في مكان يحتل المسرح الرئيسي فيه مجانين مرتفعو الصوت من الجناح اليمين. بهذا المعنى كان الجامعة الأمريكية في السليمانية مصغرا للصفوة السياسية الامريكية التي انتجتها: اسوأ الناس يحصلون على المال ويتحدثون هراء.

أن افضل وصفة للنجاح في الجامعة الأمريكية في السليمانية هي أن تكون : ذكرا ابيض جمهوريا من الجنوب ، وتملك موهبة التملق ، ولابد ان يكون لديك سجل اكاديمي متواضع وان تكون قليل التجربة في التعليم الجامعي..

كان بعض المدرسين من قلة الكفاءة وقلة الحياء انه حتى طلبتنا - ومعظمهم ينظرون للشخصيات المتنفذة الاجنبية بتوقير- كانوا يكشفون حقيقتهم. على سبيل المثال ...

الحلقة 11 هنا



هناك تعليقان (2):

  1. السيد جون دولان ينقل تجربة جديرة بالاهتمام، لانها تعبر عن مصداقية في تقديمها للقارئ باعتباره واحدآ من الشواهد الحية لمشهد السرقة والتزوير في العراق الجديد، طبعا لاننسى الشكر للاستاذة عشتار علي روعة الاختيار وجمالية الترجمة لنتاج شخصيات كانت جزء من عملية القرصنة والاحتيال في العراق
    اللهم احفظ لنا عشتار حتي ظهور المهدي

    ردحذف
  2. حمداً لله , أنك تعثرت بأمريكي لديه بعض "الثوابت القديمة"! ليروي حقيقة ما يجري خلف كواليس الجامعة الامريكية في السليمانية!؟

    شكراً لتعديل جملة( لايتكلمون الا القليل من الانجليزية )!



    عراق

    ردحذف