"المدونة محمية بميثاق الشرف. أرجو الإشارة الى اسم (غار عشتار) والكاتبة (عشتار العراقية) عند إعادة النشر"

7‏/1‏/2009

مترجم الإحتلال: لماذا يخون الخائنون

بقلم عشتار العراقية

في المقالة السابقة تحدثت عن تجنيد طلاب الجامعات وغيرهم من الشباب الذي يجيد استخدام الانترنيت للبحث عن الاعلانات وغيرها . ورغم ان طائفة المترجمين في الجيش الأمريكي هم من مختلف الأعمار (من 18 الى 65) كما قال أحدهم ، ولكن في الواقع ان الشباب في سن 18-24 هم الأغلبية.

الشاب الذي بلغ سنه 20 سنة في 2003 ، يعني انه كان في سن 8 في 1991 . انه جيل الحصار والعقوبات. الجيل الذي أرادته أمريكا للتغيير. لم يكن فرض العقوبات لمدة 13 سنة من اجل التخلص من حكم (دكتاتوري)، وإنما كان الهدف هو خلق جيل جديد سهل التطويع. لم تغير امريكا العراق بالعملاء المرضى والمقعدين والشيوخ المتخمين الذين تسلقوا الدبابات لحكم العراق. وانما هي عولت على سلب إرادة الشعب العراقي داخل العراق بالتجويع والحرمان والتضييق والقتل البطيء. وهذا ما حصلت عليه. لهذا كان لابد أن تطيل الحصار بعدة وسائل حتى يمتد لجيل. حتى يكبر الفتى ذو الاربع او ست او ثمان سنوات ليصبح شابا يفتح ذراعيه للأمريكان. هذا الفتى كبر وسط الحرمان ، وسط النفق الذي لم يكن في نهايته ضوء، لم ير ما رأيناه من عز وشموخ العراق، يوم كان الواحد منا يستطيع براتب مائة دينار ان يبني بيتا ويؤسس عائلة ويسافر كل عام للتصييف في اوربا. فنحن كلما تذكرنا العراق ، رأينا ذلك الفردوس المفقود الذي عشناه فيزداد ارتباطنا به مهما بعدنا لأن العراق الجميل العظيم يظل الحلم الذي يحدونا اليه. ولكن ذلك الفتى لم ير فردوسا في يوم ما: رأى المائة دينار لا تشتري علبة كبريت. رأى ملابسه رثة ولا يستطيع الا ان يلبس المستهلك والمستعمل من سوق الهرج. ولا يأكل الا التالف من الطعام، ولا يحلم باقتناء لعبة او الخروج في نزهة او السفر كما يفعل خلق الله. رأى اخوة له يموتون بسبب نقص حبة اسبرين . العراق من حوله موحش وقاحل والطائرات الأمريكية والبريطانية تقصفه بين حين وآخر طوال 13 عاما من العقوبات. كل ما كان يستطيع ان يشاهده هو الافلام التي تريه عالما غير ما يعيشه، عالما من الخيال. ولم يكن هناك أمل. الاطفال يكبرون ويدخلون المدارس ويتخرجون فلا يجدون اعمالا تليق بهم. يتلفتون حولهم يرون آباءهم العلماء او المهندسين او اساتذة الجامعات يتحولون الى سائقي اجرة ، والادباء يبيعون الدبس والراشي في الشورجة. لم يكن ثمة ضوء في نهاية النفق.

وفجأة يقال لهم ان امريكا قادمة لتغيير كل هذا . يرسم لهم بوش صورة وردية . فجأة الخيال يصبح حقيقة. التغيير قادم. الحياة المرفهة الجميلة قادمة . فجأة يملأ شوارعهم الأمريكان الذين لم يروهم الا في الافلام .

وفجأة يضيق النفق أكثر. من كان أيام الحصار قد حول كراج بيته الى دكان، او ورشة تصليح، او من حول سيارته الى سيارة اجرة ، او من كان يتكسب بهذه الطريقة او تلك ، او من كان يعمل في هذه الوزارة او تلك ، او ينتمي الى الجيش او أية مؤسسة حكومية وجد نفسه في الشارع عاطلا . فجأة لم يعد أمام خريج الجامعة سوى أن يلم القمامة أو يعمل في القواعد الأمريكية . ولكن أغلبهم فضل ان يكون نظيفا . مازال العالم بخير.

في تقرير للقدس برس نشر في 4-8-2004

(ياسر محمد علوان، خريج قسم الترجمة في كلية الآداب الجامعة المستنصرية يفضل العمل بالنظافة على العمل مترجماً للاحتلال قائلاً: "كل الأعمال التي عرضت علي، إما مترجم مع القوات الأمريكية، أو مع إحدى الشركات الأجنبية العاملة في العراق، وكلا العرضين مرفوض بالنسبة لي، فأنا أرفض أن أعمل أو أتعاون مع المحتل أو من يسنده، فما كان مني إلا أن ألجأ إلى أعمال التنظيف).

ويقول أحد العمال وهو طالب في كلية العلوم، رفض ذكر اسمه: "حقيقة إن شر البلية ما يضحك، فطيلة أعوام وأعوام كنت أصل الليل بالنهار من أجل أن أدخل كلية مرموقة، ولم يكن يخطر ببالي أنى سأعمل هذا العمل".

يقول إيهاب نافع -طالب في كلية الزراعة- "لقد وفرت لنا هذه الأعمال فرصة كبيرة من أجل تغطية مصاريف الدراسة، وشراء بعض الاحتياجات الضرورية، كالملابس والكتب التي نحتاجها".

وأضاف: "العمل هنا (في التنظيف) على قسمين تبعا للمرحلة الدراسية وكذلك الأجور، فطلبة الجامعات يعملون بصفة مشرفين على عمال التنظيف، حيث يشرف كل طالب جامعي على مجموعة من العمال يتراوح عددهم بين 8 إلى 10".

وعن الأجور التي يتقاضاها الطلاب، يقول إيهاب: "يحصل الطالب الجامعي على 8 آلاف دينار عراقي (ما يقارب من 6 دولارات أمريكية) مقابل 6 آلاف دينار عراقي للطالب في المرحلة الثانوية، وهي أجور مقبولة إلى حد ما).

نعم الحمد لله مازال هناك من يفضل العمل ب 6 دولارات في تنظيف شوارع بلاده على ان يكون قمامة بمئات الدولارات لدى المحتل.

ولكن مازلنا ، نبحث في أسباب العمل لدى المحتل. الى جانب كونها الفرصة الوحيدة أمام شباب الحصار، وفي هذا يتساوى الفقير ومتوسط الحال والغني، هناك سبب آخر هو الانفتاح على حيوات أخرى وطرق معيشة مختلفة ، فالشاب المحروم في بلاد محاصرة يجد نفسه فجأة في وسط حياة أمريكية ، بكل مافيها من رفاهية وتحرر واختلاف. أحدهم يصف لي في رسالة خاصة كميات الأكل المهولة حيث هناك كل ما تشتهيه العين.

"والطعام من أفخر انواع الطعام ومنوع بشكل هائل لا يصدق اتذكر عند دخولي لل (جاول هل) انبهرت بشكل كبير لرؤيتي اصناف الطعام و المشروبات بكافة انواعها عدا الكحولية والحلويات والايسكريم . تصوري انا لم ار في حياتي هذا التنوع بالطعام ، وعندما تدخلين المطعم تحسين نفسك كأنك لست في العراق انما في ولاية أمريكية "

وفي مدونته يقول المترجم سامي"خلي انشوف، هالمرة كيف حيكون عيد الشكر، و كيف هي مظاهر الأحتفال ،تدرون، فعلاً احس، انه احنة وين و بغداد وين، يعني هل فعلاً احنة بنفس العراق...من اشوف هذا البذخ، أيبااااااااااااه، لو بيدي، لا اخلي الناس كلهة تشتغل ويا الأمريكان!!"

"هنالك طرفة حصلت معي في احدى المناسبات الأحتفالية أذكر أن الشيوخ كانوا مدعووين إلى احدى الولائم، طبعاً كما تعلمون، ففي المطعم الأمريكي، يوجد كل انواع الأطعمة و المشروبات، من ضمن المشروبات هذه، ما يسمى البيرة، بغض النظر عن ما يسميها البعض بيرة اسلامية او غير الأسلامية... رأيت الشيخ توجه إلى البراد و اخذ منها، فتوجهت له مباشرةً لأقول له، شيخنا، ترة هذه بيرة...و فعلاً كان الجواب رائع منه، صدمني بقوة، قال:اعرف قابل ما اعرف،اشايفنة منفتهم!!!"

طبعا هذا ليس كلام العراقي أيام العز حين كان يفطر كبابا وكفتة، وكان الأطفال فيه يعانون من التخمة، وانما هذا كلام جيل الحصار.

السبب الآخر: هو الحياة المختلفة .

تقول داليا التي كانت تعمل مع البريطانيين انها كانت تحب عملها لأنه يعرفها على عالم جديد لم تكن تعلم عنه قبل الحرب. ولكنها لم تستمر بسبب التهديدات التي كانت تصل الى عائلتها، فهربت الى الأردن.

والثقافة المختلفة: المجندات الأمريكيات الجميلات والحديث المتحرر عن كل شيء وأهمه بالنسبة لهؤلاء الشباب: الحديث المفتوح عن الجنس. والشباب الأمريكي اللاهي في غير أوقات الدوريات والقتال. حتى ان جل ما يتعلمه المترجم العراقي ويتفاخر به وتسمعه يتحدث به هو اللهجات المحلية من الحواري الأمريكية التي يأتي منها معظم الجنود الأمريكان السود والاسبان، والاستخدام المتكرر لكلمات قبيحة صارت لازمة للثقافة الأمريكية الهابطة . كلمات مثل : mother fucker – fucking -asshole – shit- وما الى ذلك . هذه أول الكلمات التي يتعلمها بسرعة المترجم العراقي. واحد من المترجمين يقول لي في رسالة خاصة "فإن المترجم يجلس مع الجندي والضابط الأمريكي على نفس الطاولة ويأكلون سوية ، الشهادة لله، فإن الأمريكان متواضعين جدا، وبسطاء وخاصة جنودهم."

وهذا ما أثار إعجاب هذا المترجم ، تواضع الأمريكان. وهو ما يكشف قلة درايته. اولا الشعب الأمريكي يشعر بالتفوق على بقية شعوب العالم خاصة شعوب العالم الثالث، وهذا نابع من اسباب كثيرة ، منها قوة بلاده العسكرية والاقتصادية ، النشأة العصامية الولايات المتحدة ، رغم دموية تلك النشأة. وربما ما لاحظه من "تواضع" الجنود فهذا نابع من انهم قادمون من الحواري والأزقة ولديهم شعور بالخوف والنقص وعدم الاطمئنان في بلد غريب. أما "تواضع" الضباط فهو ناشيء عن ارتيابهم وعدم ثقتهم بأي عراقي ، حيث يعتبرون اي "عراقي" مهما كان صديقا، عدوا محتملا، ولهذا يحسنون معاملته الى حين. اسمعوا مثلا تجربة هذا المترجم "عبد الكريم" الذي هرب بسبب التهديد الى الأردن وحاول ان يحصل على فيزا للولايات المتحدة من السفارة الأمريكية كيف قوبل باستعلاء من قبل احدى الموظفات الأمريكيات في قسم التأشيرات:

(وقف يشرح باكيا حاله امام موظفة الفيزا ويسألها عن معاملة خاصة في ضوء خدمته للجيش الأمريكي. "كانت تنظر الي وكأنها من فوق التل . كانت تطبع شيئا على جهاز الكومبيوتر وظننت ان هذا فأل حسن، ولكنها قالت "آسفة" قلت لها "كنت اساعد بلدك . كنت اعمل مع جيشك" ولكنها ظلت تردد "انا آسفة" وأنا اتوسل لها ان تسمعني ثم اخيرا قالت "من فضلك باسيدي ، اترك الغرفة او سأطلب من يريك باب الخروج"

ومن هذه القصص الكثير. الأمريكان لطفاء طالما تعمل معهم لاتقاء شرك اذا كان لديك شر او لاعتصار كل طاقتك، ولكن حالما تغادر خدمتهم ، ترى وجههم الحقيقي. وكذلك كان السادة البيض في الولايات الجنوبية رحماء مع خدمهم السود، يقدمون لهم الطعام ويعلمونهم الدين ويضحكون بوجوههم ، طالما ظلوا عبيدا ، ولكن اذا طالب العبد بالمساواة كانوا يشنقونه على الأشجار.

سبب آخر مهم بالنسبة لشباب الحصار : المغامرة. فإن التخفي وتغيير الإسم الى اسم اجنبي واخفاء السر عن أقرب الناس، واتباع طرق مختلفة من التحايل والكذب للنجاة، الحياة السرية المحفوفة بالمخاطر.. كانت تذكي فيهم روح المغامرة التي لم يروها الا في الافلام ، وبعضهم كان يسمي نفسه "جيمس بوند" وهو يتحدث عن هذه المغامرات. كانت اختلافا كبيرا عن حياة الملل والتسكع في البيت اثناء الحصار. الحياة الان مثل فيلم اكشن مستمر لا يتوقف.

أما اسباب دخول متوسطي العمر وكبار السن في خدمة الإحتلال فهي بسببين على الأكثر:

الحصول على مورد مالي اكبر

(قبل وبعد الغزو في 2003 ظل عبد الكريم يعمل في ورشة لتصليح الأجهزة الالكترونية وكان يحصل في الشهر على مايقارب 60 دولارا. ولكن صديقا له وقع عقد ترجمة مع الجيش الأمريكي تفاخر أمامه بأنه يكسب 350 دولار وحثه على الالتحاق. وكان عبد الكريم قد علم نفسه اللغة الانجليزية من الافلام وهكذا تم قبوله حالما وقع عقدا مع شركة تايتان).

اسباب سياسية

اعتبار الاحتلال تحريرا والرغبة في المشاركة فيه . ولا ادري اذا كانت هذه رغبة حقيقية ام هي تغطية "نبيلة" على الدافع المالي.

يقول بابان "اردت ان يكون لي دور فعال مع الامريكان – ان اساعدهم واساعد شعبي" ولكنه يأمل في أن يحصل على فيزا في نهاية الامر للعيش في الولايات المتحدة.

ويقول الشبح وهو اسم حركي لمترجم آخر ان المال لم يكن الدافع ابدا وانه اراد دائما ان يعمل في الجيش الامريكي وكان الجيش في حاجة ماسة للمترجمين حين دخل العراق من الكويت في 2003 . كان الشبح يعيش في وقتها في الاردن ولكنه عاد الى العراق وهو اكبر ابناء عائلة شيعية في الجنوب وقد رأى في عمله هذا شرفا له."

"ويقول قيصر "في ذلك الوقت (2003) كان العمل مع التحالف يعتبر حظا كبيرا " وقد بدأ عمله حين انفجرت قنبلة في شارعه وجاءت القوات الامريكية الى منزله الذي كان قريبا من موقع الانفجار يبحثون عن معلومات. وقد اعجبوا بلغته الانجليزية واقترحوا ان يعمل معهم مترجما."

حكاية مدرس يعمل مترجما "في النظام السابق كنت مدرسا للغة والادب الانجليزي مقابل 3-4 دولارات في الشهر. الان احصل على 15 دولار في اليوم كمترجم. كما كنت جنديا وكنا نفطر صباحا على كسرة خبز اذا كنا محظوظين. لم يكن بقدم لنا الغداء والعشاء. عليك ان تأتي بالأكل من بيتك او تشتريه من الحوانيت. كانت حياة بائسة لم يكن الجيش يهتم بجنوده . الجيش الأمريكي يعامل جنوده جيدا. يعطيهم الطعام والمعدات ومكان العيش وتأمين صحي."

سبب واحد مهم (عدا المال) يجمع المترجمين الشباب وكبار السن ، وهو النزوح الى الولايات المتحدة . هذا هو الحلم الرئيسي لكل الذين عملوا في خدمة المحتل. أن تكون لهم الأولوية في الهجرة الى أرض الحلم السعيد. وقد زاد أملهم هذا من أول يوم وضعوا أقدامهم فيه داخل القواعد الأمريكية . في ذلك اليوم انقطعت علاقتهم بالوطن، وبالأهل وبالعشيرة. أصبحوا على ذمة دولة اخرى لا ترحب منهم بأكثر من الجهد الذي تشتريه منهم بحفنة دولارات.

ولكن في أحد الأيام من عام 2005 تذيع الجزيرة فيلما عن الهروب من فيتنام، فاذا بالهلع يستشري في صفوف المترجمين ويتقاطرون على السفير الأمريكي للسؤال عن القضية الوحيدة التي تشغل بالهم.

انتظروني في المقالة القادمة ، مازال أمامنا في سلسلة المترجمين مواضيع مثل : يوم من حياة مترجم داخل وخارج القاعدة – بيوت الدعارة في المنطقة الخضراء – الهروب من العراق – وفي الخاتمة جزاء سنمار .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق